سنفتقد البلوفر
بصراحة شديدة أعترض على تعيين الدكتور عصام شرف رئيسا لوزراء مصر، وأعلن أننى سأخرج فى أول مظاهرة مليونية تطالب بإسقاط حكومته، فكيف يمكن لى القبول بأن يصل إلى مقعد رئيس الوزراء رجل يمتلك قدرا وافرا ومشرفا من الاحترام والنزاهة والوطنية والكفاءة، لا والأدهى من كل ذلك أننى من خلال عدة مناسبات ولقاءات وبرامج استمعت فيها إليه اك...تشفت أنه يا حول الله يمتلك وعيا شاملا بمشكلات مصر، ويدرك أن التفكير العلمى هو المدخل الوحيد لحلها، والمصيبة أنه أيضا يمتلك دراية بدهاليز العملية السياسية فى مصر، ربما تجنبه أن يقع فريسة للحواة والبهلوانات وأكلة مال النبى، والذى زاد وغطى على كل ذلك أنه كان محل إجماع من كل ثوار الخامس والعشرين من يناير الذين طرحوا اسمه على قادة الجيش المصرى العظيم ضمن قائمة أسماء تحظى بتوافق وطنى واسع، واستجاب لهم الجيش بعد دراسة متأنية لتلك القائمة، أخذت أكثر من أسبوع بحسب ما علمت.
بالله عليكم ماذا ستكون لازمتى ككاتب مشاغب فى ظل رئيس وزراء كهذا؟ وإذا حدث أن تحولت بحكم إعجابى به وتقديرى له وأملى فيه إلى كاتب دائم الثناء عليه، وكان الرجل كريما معى فأخذ يتصل بى ليشكرنى ويعلق على ما كتبته، وأخذت أنا بدورى أحكى لكم فى مقالاتى ما دار بيننا، من سيضمن لى عندها أن الزميل الكبير الأستاذ سليمان جودة لن يغضب منى لأننى تعديت على اختصاصاته؟ «لا تغضب يا أستاذ سليمان فقد حبك الإفيه» لذلك يا سادة وبحكم أننا نعيش فى أيام أصبح الكثيرون منا ينظرون إلى مشاكلهم الشخصية ويسعون لحلها ولو جاءت على حساب مشاكل الوطن، ولكى أنضم إلى جحافل المتظاهرين حسنى النية الذين تحركهم أصابع سيئة النية من قيادات أمن الدولة وأذناب الحزب الوطنى الذين أخذوا على عاتقهم إفشال مهمة الجيش فى العبور بالبلاد إلى بر الأمان، ولكى أحقق أحلام بعض الذين يستغلون شعور الملايين بالظلم وآمالهم فى تحسين حياتهم لكى يصوروا لهم أن ذلك سيتم فقط من خلال تعطيل العمل وإثارة القلاقل والأزمات، ولكى أستجيب لفحيح ثعابين أمن الدولة والحزب الوطنى اللابدة فى جحور الإنترنت، والتى تستغل خوف الناس وارتباكهم - لذلك اسمحوا لى أن أتحدث باسم عدد من الكتاب الذين سيجدون أنفسهم مطالبين ببذل مجهودات ضخمة للمشاغبة مع رئيس وزراء كهذا، ستلقى عليهم سيرته العطرة بمسؤولية وطنية تدعوهم لدعمه ومساندته والنصح له حتى تعبر مصر هذه الظروف العصيبة، ولذلك سيجدون أنه من الأسهل مطالبة أولى الأمر بحل هذه المشكلة العويصة، بإقالة الدكتور عصام شرف فورا، وتعيين رئيس وزراء يسهل علينا انتقاده ودعوة الناس للتظاهر ضده.
أما إذا كان العثور على رئيس وزراء كهذا صعبا فى هذه الأوقات الحرجة التى لا تحتمل الهزار، فلا تتعبوا أنفسكم فى البحث عن أسماء جديدة، وأعيدوا إلينا الدكتور أحمد شفيق نرجوكم، فقد باغتنا الرجل ورحل عن منصبه، دون أن يمنحنا فرصة لعمل الواجب مع تصريحاته التاريخية التى قالها خلال ليلة رحيله التى أحيا فيها حفلا ساهرا على قناة «أون. تى. فى» من خلال برنامج (بلدنا بالمصرى)، هل يرضيكم على سبيل المثال لا الحصر أن نُحرم من التعليق على اعترافه بأنه أول رئيس وزراء «زومبى» فى العالم يحكم مصر رغم أنه مقتول، ألم تسمعوه وهو يقول للدكتور علاء الأسوانى عندما سأله ماذا فعل لدم الشهداء؟ فردّ عليه منفعلا «ماتلبسليش توب الوطنية يا علاء.. حاسب على كلامك.. أنا راجل حاربت وقتلت واتقتلت»، وهو اعتراف خطير لم ينتبه إليه الدكتور علاء بسبب انفعاله، فلو تنبه إليه لكان قد أنهى المناقشة فورا، لأنه إذا كان يصح سياسيا فى الدول المتقدمة أن ينفعل الإنسان على رجل أكبر منه سنا لأنه يشغل منصبا سياسيا أصبح فيه خادما للشعب ومن واجبه أن يتحمل الشعب وأجره على الله، فإنه بالتأكيد لا يصح أخلاقيا ولا حتى بيولوجيا أن يتحدث الإنسان من أساسه مع رجل «قتل واتقتل».
هل أبدو لحضرتك رجلا يركز على سفاسف الأمور ويبتعد عن جوهرها؟ جايز، فأنا أفخر بالانتماء إلى الملايين من أبناء هذا الشعب ممن يمتلكون نظرة خاصة وعميقة للحياة، تأتى لهم مثلا على الهواء بشاب اسمه وائل غنيم قضى حداشر يوم من حياته مسجونا معصوب العينين فى تصرف وحشى بربرى يستحق فاعلوه أن يذهبوا إلى المحكمة الجنائية الدولية، فينشغلون عن تلك الجريمة الشنعاء بالنقاش الجاد حول «الحظاظة» التى يرتديها وما إذا كانت جزءا من مؤامرة ماسونية صهيونية تم تنفيذها فى مصر للإطاحة بعدو الأمريكان والصهاينة ومحرر القدس ونصير الفلسطينيين الأول حسنى مبارك. أنا يا سيدى فخور بأننى أنتمى إلى جماهير غفيرة بكت بالدموع على حاكم ظالم فاسد لمجرد أنه قال لها إنه يريد أن يموت فى هذه البلاد التى قتل أبناءها بالرصاص الحى فى الشوارع وسلّط عليهم كلاب قمعه، ونهب ثروات البلاد وكدسها فى بنوك العالم وخرب إقتصادها وتعليمها وثقافتها وإعلامها، ووصل به الاستهتار بكرامة أبنائها إلى حد أن يموت ألف مواطن غرقا فلا يعلن عليهم الحداد الذى أعلنه فيما بعد على موت حفيده رحمه الله.
لذلك، ولذلك كله، لا تغضب منى إذا وجدتنى أتعاطف مع الملايين الذين رأوا بأم أعينهم رئيس وزراء يفترض به أن ينتشل بلاده من وحلتها، فإذا به لا يعرف أصلا طبيعة المنصب الذى يفترض به أن يؤديه، وما إذا كان سياسيا أم إداريا، وإذا به كلما طلب محاوروه منه أن يفسر سر إخفاق أو فشل أو تعثر، تنصل منه وقرر أن يرميه على قياداته كأنه سكرتير لرئيس الوزراء وليس رجلا اكتسب ثقة البعض فيه من كونه رجلا قويا صاحب رؤية. تعال نترك كل هذا وراء ظهورنا، ونمسك فيما هو أهم وأجدى، ألا وهو نبرة صوت الدكتور علاء الأسوانى الذى احتد وانفعل وثار وعلا صوته على الراجل، أقسم بالله أننى شاهدت تسجيل الحلقة مرتين ولم أجد أبدا شتيمة أو سبابا أو لفظة نابية وجّهها الأسوانى لشفيق، بل وجدته حريصا دائما على أن يخاطبه بلقب «حضرتك»، لكنه كان حريصا فى نفس الوقت على أن يجبر شفيق على التخلى عن دور صاحب السلطة الأبوية، حيث يجلس الحاكم منجعصا ليقول للشعب «إنت مش فاهم.. بص يا ابنى.. أنا هافهّمك»، وكل هذا لم يتوقف عنده المستفزون من الأسوانى، فقد توقفوا عند نبرة صوته الحاسمة الواثقة ليصفوها بأنه كان «بيتخانق»، وكأنه كان يتخانق من أجل حتة أرض يريد إدخالها فى كردون المبانى، مع أنه كان منفعلا من أجل دماء شهداء مرّ شهر بحاله دون أن نرى تحركا قاطعا حاسما للقصاص ممن أسالها، فى حين رأينا أحكاما قاطعة صارمة تنزل على بلطجية وحرامية ومفسدين نلعنهم فى كل كتاب، لكننا لا نظن أن أثر ما فعلوه يساوى أثر ما فعله ببلادنا وشعبنا كبار البلطجية والحرامية والمفسدين.
نعم، علينا أن نلعن جميعا الدكتور علاء الأسوانى لأن أخلاقه فسدت بفعل سفره المتكرر خارج مصر الذى جعله يرى كيف يتعامل المواطنون فى بلاد العالم المحترمة مع رؤسائهم ورؤساء وزاراتهم بكل جرأة وشجاعة لدرجة رميهم بالبيض والطماطم لأسباب أتفه بكثير من السكوت على نهب بلد والتعاطى ببطء مع قتل شباب كالورد، لقد فسد الأسوانى بفعل عِشْرته الطويلة مع الشعوب المتحضرة التى لا يقبل ناسها أن يتعامل معهم المسؤول أيا كان موقعه أو تاريخه من موقع المتفضل عليهم بتاريخه وعطائه، لأنه إذا لم يقبل أن يخدمهم بكل أريحية وإنكار للذات فعليه أن يرحل فورا. فعلا، كان على الأسوانى كلما قال له الدكتور شفيق «أصلك مش فاهم ومتسرع.. أنا هافهّمك» أن يرد عليه وهو ينحنى قائلا «صح يا فندم.. أنا مش فاهم حاجة.. أتوسل إلى سيادتك فهمنى.. هو أنا آجى فين جنب فهمك وعلمك وحكمتك التى تختال بها علينا يا صاحب القلب الكبير»، كان يجب على الأسوانى مثلا أن يقتدى بالسيد محافظ الشرقية يحيى عبدالمجيد الذى لم يراع لقب المستشار الذى يحمله وعندما سأله حسنى مبارك «إنت من أى بلد؟»، رد عليه الرد العبقرى الذى أعجز الأولين والآخرين «أنا من البلد اللى تقول عليها يا فندم»، وهو فيما يبدو الرد الذى دفع السيد شفيق لاختياره وزيرا فى حكومته المأسوف على طفولتها.
نعم يا سادة، لم تقم ثورة الخامس والعشرين من يناير ولم يسقط مئات الشهداء ولا آلاف الجرحى لكى نصل إلى هذا المستوى المتقدم من حرية الرأى الذى يقول فيه الكاتب لرئيس الوزراء «سأخرج للتظاهر ضدك غدا»، أو يطلب منه أن يخاطبه بلقبه وليس باسمه، لأنهما لا يجلسان سويا فى تراس نادى الجزيرة بل يجلسان أمام ملايين يجب أن تشهد حوارا نديا بين كاتب ومسؤول يليق بجدية المرحلة وتوترها وحساسيتها، أو يثور فيه الكاتب منفعلا على المسؤول عندما يتهمه بأنه يلبس ثوب الوطنية لمجرد أنه سأله عن دماء الشهداء ولماذا لا يتعامل معها بنفس الطريقة التى يتم التعامل بها مع دماء رئيس الجمهورية والمسؤولين. حاشا لله، الثورة لم تقم من أجل هذا أبدا، بل قامت لنستمر كما نحن على حطة شعبك، كلما حكمنا مسؤول ندعو له أن يكون الله فى عونه، ونلتمس له أعذارا قبل حتى أن يقدمها، وننتظر عطاياه وهباته ونفحاته، ونعامله كأنه أبونا إذا كان كبيرا حتى لو كان هو ذاته لم يرحم فينا كبيرا أو صغيرا، وننسى أنه جاب لنا المرض متذكرين مرضه، ونتأسف له لأن دماءنا طرطشت على ثياب رجاله الذين تركهم يقتلوننا قتلة الكلاب، ونشكره لأنه خدم مصر واستثمر فلوسها فى بنوك بره لحسابه وحساب عياله.
حقك علينا يا دكتور شفيق، كنا سنسألك لماذا رحلت هكذا بسهولة لم تكن واضحة عليك فى ليلة الرحيل، لكننا بصراحة سمعنا أن «قادتك» طلبوا منك الاستقالة، وأنهم كانوا أصلا يبحثون لسيادتك عن بديل منذ أسبوعين، ومع ذلك فنحن سنصدق بمزاجنا أنك رحلت بإرادتك الكاملة إكراما للمطارات الرائعة التى أنجزتها، دعنا نطمئنك يا فندم أن بعض هواة جمع الأصنام الذين أزعجهم غضب علاء الأسوانى على دماء الشهداء ربما يقومون بترشيحك رئيسا للجمهورية لكى تواصل عطاء الرجل الذى ظللت صامتا على فساده وظلمه ومتعاونا معه حتى آخر لحظة، بل كنا نظن أنه صاحب فضل عليك فكشفت لنا أنك أنت صاحب الفضل عليه وأنه كان ينسب إنجازاتك لنفسه، ومع ذلك فالذين أيدوك هم أنفسهم الذين أيدوه ونفس الذين يتأسفون لك هم الذين يتأسفون له.
من قلبى أقولها لك يا دكتور شفيق: لك الشكر على أى حال سواء كنت استقلت أم أُقِلت، فليس ذنبك أن بيننا من اعتقد أن من ينشئ مطارا جيدا يمكن له أن يساعد بلدا على الإقلاع بعد أن حَطّم الطيار أجنحتها، صدقنى يا دكتور عندما أقسم لك أن انفعال علاء الأسوانى لم يكن موجها ضد شخصك المحترم، بقدر ما كان موجها ضد مصر القديمة التى لن يحكم فيها بعد اليوم حاكم أب أو شيخ قبيلة أو زعيم أو قائد ملهم أو رمز ضرورة، ولن يحكمها بأمر الله ويقظة الشعب إلا خادم للشعب إذا لم يراع الله فى شعبه أو أظهر تراخيا فى مهامه أو لم يكن واعيا بدوره أو غير مؤهل له عندها سيقول له الشعب بملء فمه «طير إنت»
لــ بقلم بلال فضل ٦/ ٣/ ٢٠١١
Share انشر الموضوع على الفيس بوك
بصراحة شديدة أعترض على تعيين الدكتور عصام شرف رئيسا لوزراء مصر، وأعلن أننى سأخرج فى أول مظاهرة مليونية تطالب بإسقاط حكومته، فكيف يمكن لى القبول بأن يصل إلى مقعد رئيس الوزراء رجل يمتلك قدرا وافرا ومشرفا من الاحترام والنزاهة والوطنية والكفاءة، لا والأدهى من كل ذلك أننى من خلال عدة مناسبات ولقاءات وبرامج استمعت فيها إليه اك...تشفت أنه يا حول الله يمتلك وعيا شاملا بمشكلات مصر، ويدرك أن التفكير العلمى هو المدخل الوحيد لحلها، والمصيبة أنه أيضا يمتلك دراية بدهاليز العملية السياسية فى مصر، ربما تجنبه أن يقع فريسة للحواة والبهلوانات وأكلة مال النبى، والذى زاد وغطى على كل ذلك أنه كان محل إجماع من كل ثوار الخامس والعشرين من يناير الذين طرحوا اسمه على قادة الجيش المصرى العظيم ضمن قائمة أسماء تحظى بتوافق وطنى واسع، واستجاب لهم الجيش بعد دراسة متأنية لتلك القائمة، أخذت أكثر من أسبوع بحسب ما علمت.
بالله عليكم ماذا ستكون لازمتى ككاتب مشاغب فى ظل رئيس وزراء كهذا؟ وإذا حدث أن تحولت بحكم إعجابى به وتقديرى له وأملى فيه إلى كاتب دائم الثناء عليه، وكان الرجل كريما معى فأخذ يتصل بى ليشكرنى ويعلق على ما كتبته، وأخذت أنا بدورى أحكى لكم فى مقالاتى ما دار بيننا، من سيضمن لى عندها أن الزميل الكبير الأستاذ سليمان جودة لن يغضب منى لأننى تعديت على اختصاصاته؟ «لا تغضب يا أستاذ سليمان فقد حبك الإفيه» لذلك يا سادة وبحكم أننا نعيش فى أيام أصبح الكثيرون منا ينظرون إلى مشاكلهم الشخصية ويسعون لحلها ولو جاءت على حساب مشاكل الوطن، ولكى أنضم إلى جحافل المتظاهرين حسنى النية الذين تحركهم أصابع سيئة النية من قيادات أمن الدولة وأذناب الحزب الوطنى الذين أخذوا على عاتقهم إفشال مهمة الجيش فى العبور بالبلاد إلى بر الأمان، ولكى أحقق أحلام بعض الذين يستغلون شعور الملايين بالظلم وآمالهم فى تحسين حياتهم لكى يصوروا لهم أن ذلك سيتم فقط من خلال تعطيل العمل وإثارة القلاقل والأزمات، ولكى أستجيب لفحيح ثعابين أمن الدولة والحزب الوطنى اللابدة فى جحور الإنترنت، والتى تستغل خوف الناس وارتباكهم - لذلك اسمحوا لى أن أتحدث باسم عدد من الكتاب الذين سيجدون أنفسهم مطالبين ببذل مجهودات ضخمة للمشاغبة مع رئيس وزراء كهذا، ستلقى عليهم سيرته العطرة بمسؤولية وطنية تدعوهم لدعمه ومساندته والنصح له حتى تعبر مصر هذه الظروف العصيبة، ولذلك سيجدون أنه من الأسهل مطالبة أولى الأمر بحل هذه المشكلة العويصة، بإقالة الدكتور عصام شرف فورا، وتعيين رئيس وزراء يسهل علينا انتقاده ودعوة الناس للتظاهر ضده.
أما إذا كان العثور على رئيس وزراء كهذا صعبا فى هذه الأوقات الحرجة التى لا تحتمل الهزار، فلا تتعبوا أنفسكم فى البحث عن أسماء جديدة، وأعيدوا إلينا الدكتور أحمد شفيق نرجوكم، فقد باغتنا الرجل ورحل عن منصبه، دون أن يمنحنا فرصة لعمل الواجب مع تصريحاته التاريخية التى قالها خلال ليلة رحيله التى أحيا فيها حفلا ساهرا على قناة «أون. تى. فى» من خلال برنامج (بلدنا بالمصرى)، هل يرضيكم على سبيل المثال لا الحصر أن نُحرم من التعليق على اعترافه بأنه أول رئيس وزراء «زومبى» فى العالم يحكم مصر رغم أنه مقتول، ألم تسمعوه وهو يقول للدكتور علاء الأسوانى عندما سأله ماذا فعل لدم الشهداء؟ فردّ عليه منفعلا «ماتلبسليش توب الوطنية يا علاء.. حاسب على كلامك.. أنا راجل حاربت وقتلت واتقتلت»، وهو اعتراف خطير لم ينتبه إليه الدكتور علاء بسبب انفعاله، فلو تنبه إليه لكان قد أنهى المناقشة فورا، لأنه إذا كان يصح سياسيا فى الدول المتقدمة أن ينفعل الإنسان على رجل أكبر منه سنا لأنه يشغل منصبا سياسيا أصبح فيه خادما للشعب ومن واجبه أن يتحمل الشعب وأجره على الله، فإنه بالتأكيد لا يصح أخلاقيا ولا حتى بيولوجيا أن يتحدث الإنسان من أساسه مع رجل «قتل واتقتل».
هل أبدو لحضرتك رجلا يركز على سفاسف الأمور ويبتعد عن جوهرها؟ جايز، فأنا أفخر بالانتماء إلى الملايين من أبناء هذا الشعب ممن يمتلكون نظرة خاصة وعميقة للحياة، تأتى لهم مثلا على الهواء بشاب اسمه وائل غنيم قضى حداشر يوم من حياته مسجونا معصوب العينين فى تصرف وحشى بربرى يستحق فاعلوه أن يذهبوا إلى المحكمة الجنائية الدولية، فينشغلون عن تلك الجريمة الشنعاء بالنقاش الجاد حول «الحظاظة» التى يرتديها وما إذا كانت جزءا من مؤامرة ماسونية صهيونية تم تنفيذها فى مصر للإطاحة بعدو الأمريكان والصهاينة ومحرر القدس ونصير الفلسطينيين الأول حسنى مبارك. أنا يا سيدى فخور بأننى أنتمى إلى جماهير غفيرة بكت بالدموع على حاكم ظالم فاسد لمجرد أنه قال لها إنه يريد أن يموت فى هذه البلاد التى قتل أبناءها بالرصاص الحى فى الشوارع وسلّط عليهم كلاب قمعه، ونهب ثروات البلاد وكدسها فى بنوك العالم وخرب إقتصادها وتعليمها وثقافتها وإعلامها، ووصل به الاستهتار بكرامة أبنائها إلى حد أن يموت ألف مواطن غرقا فلا يعلن عليهم الحداد الذى أعلنه فيما بعد على موت حفيده رحمه الله.
لذلك، ولذلك كله، لا تغضب منى إذا وجدتنى أتعاطف مع الملايين الذين رأوا بأم أعينهم رئيس وزراء يفترض به أن ينتشل بلاده من وحلتها، فإذا به لا يعرف أصلا طبيعة المنصب الذى يفترض به أن يؤديه، وما إذا كان سياسيا أم إداريا، وإذا به كلما طلب محاوروه منه أن يفسر سر إخفاق أو فشل أو تعثر، تنصل منه وقرر أن يرميه على قياداته كأنه سكرتير لرئيس الوزراء وليس رجلا اكتسب ثقة البعض فيه من كونه رجلا قويا صاحب رؤية. تعال نترك كل هذا وراء ظهورنا، ونمسك فيما هو أهم وأجدى، ألا وهو نبرة صوت الدكتور علاء الأسوانى الذى احتد وانفعل وثار وعلا صوته على الراجل، أقسم بالله أننى شاهدت تسجيل الحلقة مرتين ولم أجد أبدا شتيمة أو سبابا أو لفظة نابية وجّهها الأسوانى لشفيق، بل وجدته حريصا دائما على أن يخاطبه بلقب «حضرتك»، لكنه كان حريصا فى نفس الوقت على أن يجبر شفيق على التخلى عن دور صاحب السلطة الأبوية، حيث يجلس الحاكم منجعصا ليقول للشعب «إنت مش فاهم.. بص يا ابنى.. أنا هافهّمك»، وكل هذا لم يتوقف عنده المستفزون من الأسوانى، فقد توقفوا عند نبرة صوته الحاسمة الواثقة ليصفوها بأنه كان «بيتخانق»، وكأنه كان يتخانق من أجل حتة أرض يريد إدخالها فى كردون المبانى، مع أنه كان منفعلا من أجل دماء شهداء مرّ شهر بحاله دون أن نرى تحركا قاطعا حاسما للقصاص ممن أسالها، فى حين رأينا أحكاما قاطعة صارمة تنزل على بلطجية وحرامية ومفسدين نلعنهم فى كل كتاب، لكننا لا نظن أن أثر ما فعلوه يساوى أثر ما فعله ببلادنا وشعبنا كبار البلطجية والحرامية والمفسدين.
نعم، علينا أن نلعن جميعا الدكتور علاء الأسوانى لأن أخلاقه فسدت بفعل سفره المتكرر خارج مصر الذى جعله يرى كيف يتعامل المواطنون فى بلاد العالم المحترمة مع رؤسائهم ورؤساء وزاراتهم بكل جرأة وشجاعة لدرجة رميهم بالبيض والطماطم لأسباب أتفه بكثير من السكوت على نهب بلد والتعاطى ببطء مع قتل شباب كالورد، لقد فسد الأسوانى بفعل عِشْرته الطويلة مع الشعوب المتحضرة التى لا يقبل ناسها أن يتعامل معهم المسؤول أيا كان موقعه أو تاريخه من موقع المتفضل عليهم بتاريخه وعطائه، لأنه إذا لم يقبل أن يخدمهم بكل أريحية وإنكار للذات فعليه أن يرحل فورا. فعلا، كان على الأسوانى كلما قال له الدكتور شفيق «أصلك مش فاهم ومتسرع.. أنا هافهّمك» أن يرد عليه وهو ينحنى قائلا «صح يا فندم.. أنا مش فاهم حاجة.. أتوسل إلى سيادتك فهمنى.. هو أنا آجى فين جنب فهمك وعلمك وحكمتك التى تختال بها علينا يا صاحب القلب الكبير»، كان يجب على الأسوانى مثلا أن يقتدى بالسيد محافظ الشرقية يحيى عبدالمجيد الذى لم يراع لقب المستشار الذى يحمله وعندما سأله حسنى مبارك «إنت من أى بلد؟»، رد عليه الرد العبقرى الذى أعجز الأولين والآخرين «أنا من البلد اللى تقول عليها يا فندم»، وهو فيما يبدو الرد الذى دفع السيد شفيق لاختياره وزيرا فى حكومته المأسوف على طفولتها.
نعم يا سادة، لم تقم ثورة الخامس والعشرين من يناير ولم يسقط مئات الشهداء ولا آلاف الجرحى لكى نصل إلى هذا المستوى المتقدم من حرية الرأى الذى يقول فيه الكاتب لرئيس الوزراء «سأخرج للتظاهر ضدك غدا»، أو يطلب منه أن يخاطبه بلقبه وليس باسمه، لأنهما لا يجلسان سويا فى تراس نادى الجزيرة بل يجلسان أمام ملايين يجب أن تشهد حوارا نديا بين كاتب ومسؤول يليق بجدية المرحلة وتوترها وحساسيتها، أو يثور فيه الكاتب منفعلا على المسؤول عندما يتهمه بأنه يلبس ثوب الوطنية لمجرد أنه سأله عن دماء الشهداء ولماذا لا يتعامل معها بنفس الطريقة التى يتم التعامل بها مع دماء رئيس الجمهورية والمسؤولين. حاشا لله، الثورة لم تقم من أجل هذا أبدا، بل قامت لنستمر كما نحن على حطة شعبك، كلما حكمنا مسؤول ندعو له أن يكون الله فى عونه، ونلتمس له أعذارا قبل حتى أن يقدمها، وننتظر عطاياه وهباته ونفحاته، ونعامله كأنه أبونا إذا كان كبيرا حتى لو كان هو ذاته لم يرحم فينا كبيرا أو صغيرا، وننسى أنه جاب لنا المرض متذكرين مرضه، ونتأسف له لأن دماءنا طرطشت على ثياب رجاله الذين تركهم يقتلوننا قتلة الكلاب، ونشكره لأنه خدم مصر واستثمر فلوسها فى بنوك بره لحسابه وحساب عياله.
حقك علينا يا دكتور شفيق، كنا سنسألك لماذا رحلت هكذا بسهولة لم تكن واضحة عليك فى ليلة الرحيل، لكننا بصراحة سمعنا أن «قادتك» طلبوا منك الاستقالة، وأنهم كانوا أصلا يبحثون لسيادتك عن بديل منذ أسبوعين، ومع ذلك فنحن سنصدق بمزاجنا أنك رحلت بإرادتك الكاملة إكراما للمطارات الرائعة التى أنجزتها، دعنا نطمئنك يا فندم أن بعض هواة جمع الأصنام الذين أزعجهم غضب علاء الأسوانى على دماء الشهداء ربما يقومون بترشيحك رئيسا للجمهورية لكى تواصل عطاء الرجل الذى ظللت صامتا على فساده وظلمه ومتعاونا معه حتى آخر لحظة، بل كنا نظن أنه صاحب فضل عليك فكشفت لنا أنك أنت صاحب الفضل عليه وأنه كان ينسب إنجازاتك لنفسه، ومع ذلك فالذين أيدوك هم أنفسهم الذين أيدوه ونفس الذين يتأسفون لك هم الذين يتأسفون له.
من قلبى أقولها لك يا دكتور شفيق: لك الشكر على أى حال سواء كنت استقلت أم أُقِلت، فليس ذنبك أن بيننا من اعتقد أن من ينشئ مطارا جيدا يمكن له أن يساعد بلدا على الإقلاع بعد أن حَطّم الطيار أجنحتها، صدقنى يا دكتور عندما أقسم لك أن انفعال علاء الأسوانى لم يكن موجها ضد شخصك المحترم، بقدر ما كان موجها ضد مصر القديمة التى لن يحكم فيها بعد اليوم حاكم أب أو شيخ قبيلة أو زعيم أو قائد ملهم أو رمز ضرورة، ولن يحكمها بأمر الله ويقظة الشعب إلا خادم للشعب إذا لم يراع الله فى شعبه أو أظهر تراخيا فى مهامه أو لم يكن واعيا بدوره أو غير مؤهل له عندها سيقول له الشعب بملء فمه «طير إنت»
لــ بقلم بلال فضل ٦/ ٣/ ٢٠١١