الفن أحد المواهب التي يتميز بها الإنسان، و هو مهارة ينفرد بها مثل الكلام و التفكير و حرية الاختيار، فهو المخلوق الوحيد الذي يتكلم و يفكر و يبدع.
و الفن هو تجلي أحكام الأسماء الحسنى الإلهية (( الخالق و البديع و الحكيم و العليم ))ا في النفس الإنسانية التي جعلها الله بحكم كرمه قابلة لعطاء الحكمة و العلم و الخلق و الإبداع.. فكما تجلى (( ...السميع )) في سمع الإنسان، و (( البصير )) في بصره.. كذلك تجلى (( البديع )) في إبداعه.. و تجلى (( الخالق )) فيما يخلق الإنسان من فنون، فالفنون كلها مهارات طبيعية نولد بها.. و هي بعض عطايا الله و نعمه.
و لكن الإنسان الذي ولد حرا و مختارا و خطاء و متمردا لم يوظف تلك المهارة دائما في الخير، و إنما انحرف بها أحيانا إلى الهوى و الغرض و الغواية، و إلى مجرد جلب الشهرة و الجاه و التأثير.. أحيانا بالنفع، و أحيانا بالضرر في الآخرين.
فالفن الذي يربي العواطف رأيناه في أكثر أفلام السينما يلعب بالعواطف و يلهو بالعقول
و الشعر الذي يسمو بالوجدان رأيناه في أكثر الأغاني يهبط بالوجدان و يسفل بالمشاعر
و الموسيقى التي ترتفع بنا إلى آفاق الجمال و التأمل رأيناها تهبط بنا إلى الترقيص و حركات النسانيس!ا
و لأن الفن يدخل إلينا الآن خلسة من تحت الباب في الصحيفة اليومية و الكتاب، و يتسلل إلينا في غرفات النوم في التليفزيون و الكاسيت.. فقد تحول إلى وسيلة جهنمية في تشكيل الأجيال و في تربيتها أو إتلافها و غسل مخها.
و بهذا أصبح الفنان قادرا على أن يقتل و أن يضيع و أن يميت أمة، كما أنه قادر على أن يحييها و يبعثها.
لـ د/ مـصـطفـي مـحمـود
و لأن الفن سلاح قاتل، فلا يصح أن يكون حرا حرية مطلقة و حرية الفنان و حرية الفن دعاوى غير صحيحة، فالفنان حر مسئول محاسب، و كحامل أي سلاح يمكن أن تسحب منه رخصة استعماله إذا أساء هذا الاستعمال.
و إذا كان الفنان يطالبنا بأن نحميه، فالجمهور القارئ و المشاهد – و هم بالملايين – لهم هم الآخرون حق الحماية من الإسفاف الذي يعرض عليهم.
و كلمة فنان لا تعني العصمة من المساءلة، و لا تعني الحصانة، بل على العكس تعني المسئولية.. و محكمة النقد و سيف الرقابة حماية ضرورية للمواطنين.
و التليفزيون في حاجة إلى مجلس حكماء يمنع هذا السيل الهابط من الأفلام و العروض المبتذلة و الأغاني الساقطة و الحوار المسف و الرقص البذيء.
و ليس هذا كلاما في الدين و إنما في أوليات علم الاجتماع.
أما الفنان الذي يسألني: هل ما أفعله حلال أم حرام؟
فأقول له: أنا لا أفتيك.. و لكن يفتيك قلبك.
اسأل نفسك: هل ما تفعله نافع و مفيد للناس ؟
أم تراه ضارا بهم ؟!
و ستعرف أين أنت.
و لا مانع من أن يكسب الفنان و يزداد غنى، و لكن من طريق يجعل مشاهديه و قراءه يكسبون هم الآخرون و يزدادون به ثراء و غنى.
أما الفنان الذي يهبط بقرائه و ينزل بمشاهديه، فإن ما يأخذه من مال لا يدخل في باب الكسب.. لكن في باب النشل !ا
و الذي يسأل: هل هناك فن رديء ؟.. و كيف يمكن أن يسمى فنا برغم رداءته ؟.. أقول: بل هو فن.. و لا يمتنع على الفن أن يكون رديئا.. لأن الفن مهارة و موهبة، و الموهبة يمكن أن يوظفها صاحبها في الخير و يمكن أن يوظفها في الشر.. و هي كالقوة العضلية و كحدة البصر و حدة السمع و سرعة البديهة و الذكاء.. و كلها مواهب أحيانا توظف للخير و أحيانا للجريمة.
و الفنان يمكن أن يكون شريرا، فيعبر عن شره في فنه.. و من الأعمال الفنية العلمية ما يقطر تشاؤما، و منها ما يسيل حقدا، و منها ما ينبض بالعدوانية، و منها ما يحض على الفوضى، و منها ما يدعو إلى المادية و الإلحاد و الرفض و العدمية.. و أصحاب هذه الأعمال فنانون عالميون من حملة النياشين و الجوائز.. و لهم جاه و شهرة و جمهور.. و لهم يخوت و قصور.
و لكن هذا الفن السالب يدخل عند الله في باب الذنب.. و إن كان في ناموس الدنيا يدخل في باب الحسنات و يدخل أصحابه في باب العظماء !
و مقاييس الدنيا تخطئ أحيانا، و هي تتغير دائما و في جميع الأحوال
فكم من ملايين المشيعين ساروا يبكون خلف جنازة ستالين..!ا
و كم كتابا مجده و كم مقالة عظمته !ا
و كم تمثالا ارتفع له !ا
و كم عملة ذهبية صكت باسمه !ا
ثم تغيرت المقاييس، فأصبح الممجد ملعونا، و المعظم مطرودا ! و لا ندري ماذا يجري غدا في العالم الذي يتغير فيه كل شيء !ا
و ما يجري في بورصة العظمة الفنية أعجب !ا
بالأمس بيعت لوحة للفنان فان جوخ بأربعين مليون دولار.. و في حياته كان يحاول أن يبيعها برغيفين فلا يجد مشتريا !ا
و بيكاسو مات في قمة مجد فني، و لا ندري بعد مائة سنة ماذا يقول الفنانون أنفسهم في تراثه الفني !ا
أغلب الظن أن معظم أعماله سوف تدخل في باب العبث و التجارب العبثية.
و يظل هناك مقياس لا يخطئ و لا يخيب لكل أعمال الإنسان – فنية كانت أو فكرية أو فلسفية أو سياسية أو اجتماعية – هو المقياس الذي جاء به القرآن
ا(( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ))ا