كنت محظوظاً إلى أبعد حد، إذ أتاحت لى الفرص التعرف على عدد من شخصيات العصر، كل واحد منهم كان دنيا كبيرة وعالماً بأسره، مثل «زكريا الحجاوى» و«كامل الشناوى» وتعرفت على «مأمون الشناوى» ومنه تعلمت النكتة وفن السخرية.. ومأمون كاتب ساخر لو أتيحت له الفرصة لكان لدينا أوسكار وايلد جديد..
وتعرفت على نجيب الريحانى فى آخر أيام حيا...ته وعرض علىّ الاشتغال معه فى التمثيل، ولو بقى أعواماً أخرى على قيد الحياة فلربما أصبحت الآن ممثلاً يشار إليه بالحذاء.. وعرفت «بيرم التونسى» قبل أن يموت بخمسة أعوام وصاحبته واختلفت معه وأحببته حتى العبادة..
وقابلت عدداً كبيراً من الملوك ورؤساء الجمهوريات وصادقت عساكر البوليس وعمال بناء ومكوجية، وطُفت بأكثر بلاد أوروبا، نمت على شاطئ بحيرة «جنيف» وفى فندق «الكنجزهوف» على شاطئ «الراين»، وفى فندق «الصخرة» فى «جبل طارق» وفى «المنصور» فى «الدار البيضاء» وفى «المنزه» فى «طنجة» وفى «الأكسلسيور» فى «روما»..
ولكن لايزال أجمل مكان أحن إليه وأتمنى أن أقضى بقية حياتى فيه هو قريتى فى «المنوفية» وشارع البحر فى «الجيزة» وضفاف بحيرة التمساح فى منطقة القناة، وعندما أغادر مصر فى رحلة إلى الخارج أشعر بأننى سأختنق وأموت.. شعور لا يفارقنى أبداً إلا عندما أضع قدمى فى أرض مطار القاهرة..
ولقد عشت حياتى بالطول والعرض وبالعمق كذلك ولست نادماً على شىء، ولو عدت إلى الحياة من جديد لاخترت حياتى هذه كما حدثت وكما وقعت وبالتفاصيل.. لكن أمنيتى التى لا أزال أرجو تحقيقها هى العثور على قطعة أرض فى بلدنا، فدان أقيم عليه بيتاً وأطلق فيه عدة أسراب من الوز والحمام وفصائل من الأرانب وأزرع حوله عيدان الملوخية وأضع على سطحه عشرة بلاليص فيها جبنة قديمة ومخلل، وأرتدى جلباباً أبيض وطاقية فوق رأسى وأمشى حافى القدمين وأستحم إذا شئت فى ماء الترعة على أن أقيم إلى جوار البيت قبراً لشخصى، فأنا أخاف النوم فى المقابر البعيدة.. أخشى بعد الموت أن ينهشنى ذئب جائع أو ضبع صايع..
وأخاف الحياة مع الموتى، أريد الموت إلى جانب الأحياء لكى أظل معهم أتفرج على الأجيال الجديدة السعيدة التى ستملأ الحياة فناً وورداً ورقصاً وموسيقى، وأرجو ألا أموت قبل سن التسعين لكى أعيش على هذه الأرض أطول فترة ممكنة، ولكى أرى أكبر عدد ممكن من البلاد، ولكى أتعرف على أكبر عدد ممكن من الناس، ولكى أقرأ أكبر عدد ممكن من الكتب، ولكى أموت وليس لى فى الحياة مطمع جديد).
(محمود السعدنى)