هل ذكر هذا بكاء علي الأطلال أم هو صرخة استغاثة؟
عندما تتكلم عن الغاز الذي يباع بأسعار الأوكازيون لإسرائيل، وعن الفقر المتفشي وعن الأسر المتمسكة بالحافة، وفي كل يوم تتخلي أنامل أسرة منها عما تتمسك به فتسقط في هاوية الفقر السحيقة. عندما تتكلم عن الدروس الخصوصية التي تمتص دخل كل البيوت، والتعليم الذي أفرز جيلاً من الشباب يكتب كله (لاكن) و...(فتايات) و(زالك). عندما تتكلم عن المرض الذي جعل مصر أعلي دولة في معدلات التهاب الكبد سي. عندما تتكلم عن العبارة والدويقة. عندما تتكلم عن منع القافلة من العبور لغزة. عندما تتكلم عن المشاكل المفتعلة حول النقاب والحجاب، وتتكلم حول المجتمع الذي تفشي فيه التعصب خصوصًا في الطبقات متوسطة التعليم أو الثقافة. هذا كله ليس من قبيل البكاء علي الأطلال بل هو المزيد من صرخات الاستغاثة.
أقول لهم دعوكم مني ولنسمع ما يقوله خواجه مثل توماس فريدمان الذي طرتم به طربًا منذ أعوام باعتباره نبي العولمة، ثم كرهتموه كالجحيم عندما بدأ يقول كلامًا قليل الأدب كهذا: «منذ أعوام بدأ الرئيس المصري حسني مبارك حملة إصلاح اقتصادي حققت معدل تنمية 7% سنويًا في السنوات الثلاث الأخيرة، لكن التهمت زيادة أسعار الغذاء والوقود كل هذه التنمية كسرب جراد يلتهم وادي النيل. إن مظاهرات الخبز حدث يومي هنا اليوم. أسمع محاورة بين بائع بطاطس في شبرا وزبائنه عمن هو أقل ضميرًا: المدرسون في المدارس الحكومية الذين يتقاضون مالاً من أجل إعطاء دروس بعد اليوم الدراسي لأن كل فصل فيه 80 تلميذًا، أم الأطباء الحكوميون الذين يطلبون مالاً مقابل الرعاية الصحية اللائقة. ليس لأنهم أشرار بل لأنهم مسحوقون. هناك صفقة بين النظام والمصريين تقضي بأن الحكومة ستعطيهم طعامًا رخيصًا ووظائف مقابل أن يبتعدوا عن السياسة. لم يعد الالتزام بالصفقة ممكنًا اليوم فلم يبق منها سوي (ابتعدوا عن السياسة). الأخبار الطيبة هي أن مصريين أكثر يمكنهم اليوم أن يعيشوا كالأمريكيين. الأخبار السيئة هي أن مصريين أكثر لا يمكنهم اليوم أن يعيشوا كالمصريين. وهذا ليس جيدًا.. لا لهم ولا لنا».
أما البريطاني روبرت فيسك فهو كارثة أخري بصراحته الصادمة ولسانه الطويل: «حقيقة أن مصر لا تستطيع فتح حدودها المستقلة إلا بإذن من واشنطن، تخبرك بكل ما تريد معرفته عن الحكومات التي تدير الشرق الأوسط لنا. إن مصر من دون مساعدات الغرب مفلسة. لكن مشكلة مصر الرئيسة هي الفساد الذي صار مغموسًا في المجتمع المصري حيث لم يعد هناك وجود لفكرة العلاج والتعليم والأمن للناس العاديين. المهمة الوحيدة للشرطة هي حماية النظام. إن مرض مصر شبيه كثيرًا بمرض الفلسطينيين. إن (عنّة) مصر في مواجهة معاناة غزة ترمز لمرضها السياسي».
وسط هذا الضباب يظهر أمل خافت.. فارس فارع القامة حملته السماء لنا.. صحيح أنه فارس أشيب في السبعين، لكنه يحمل الأمل بالتأكيد، وقد قابله المصريون بلهفة حتي إن هاجسًا مقلقًا مر بذهني أن يتكرر معه ما حدث يوم استقبال المعارض الفلبيني (بنينو أكينو) في المطار في الثمانينيات.. أخيرًا ها هو ذا رجل مدني لا يحسب علي المؤسسة العسكرية ولا الإخوان فيثير قلق البعض، وله احترام دولي ساحق وخبرة سياسية عميقة. تعودت لكي أعرف الصواب من الخطأ أن أبحث عن علامات معينة؛ لهذا اعتدت أن أقول لصغار السن: من الذي رقص الإسرائيليون في الشوارع يوم وفاته (كانت عندي صورة نادرة لجولدا مائير وهي توشك علي الموت ضحكًا من فرط السعادة)، ومن الذي بكوا يوم موته؟.. إذا عرفت الإجابة فأنت تعرف الصواب من الخطأ. اليوم أنظر إلي اتجاه نباح الكلاب.. كل الكلاب تنبح في اتجاه هذا الرجل. هذا بالتأكيد يعطيه مصداقية وشرعية عظيمتين. هذا مقياس دقيق إلي حد ما. وفي النهاية هو يعد بما يحتاج له هذا البلد فعلاً: الرئيس الذي يسمح للناس بانتخاب آخر لو لم يرق إلي مستوي تطلعاتهم. سوف يعطي مصر الهزة المطلوبة لإسقاط طبقات الصدأ والغبار والطين الجاف.
لكن هل البرادعي يستطيع فعلاً أن يلعب الدور الذي يتوقعه الجميع منه؟.. كيف يمكن أن يفلت عبر ثغرات المصيدة الجهنمية التي لا تسمح لأي واحد بالترشح؟.. هل يمكن فعلاً أن تتم التعديلات الدستورية التي طالب بها؟.. ما أعرفه هو شيء واحد: لو رشح نفسه فلسوف أذهب لانتخابه
لــ أحمد خالد توفيق